آثار الوسطية على الفرد والمجتمع

آثار الوسطية والاعتدال على الفرد والمجتمع

تُعدّ الوسطية والاعتدال من المبادئ الراسخة في تعاليم الإسلام، وهي تمثل منهجاً متكاملاً في التصور والسلوك والتعامل مع الحياة بجميع أبعادها. إذ لا تقتصر الوسطية على الجانب الديني وحده، بل تمتد لتشمل مختلف نواحي الحياة: الفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية. وقد وصف الله تعالى أمة الإسلام في قوله: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةًۭ وَسَطًۭا﴾ [البقرة: 143]، ليكون هذا المنهج عنواناً يميز الأمة ويهديها إلى طريق الرشاد والاعتدال.

في هذا السياق، يتجلى أثر الوسطية والاعتدال بشكل ملموس وعميق على كل من الفرد والمجتمع، حيث يسهم في بناء شخصية متزنة، ومجتمع متماسك، خالٍ من مظاهر التطرف والانحلال، مما ينعكس إيجاباً على الأمن والاستقرار والتقدم الحضاري.

أولاً: أثر الوسطية والاعتدال على الفرد

1. سلامة العقيدة ونقاء الإيمان

الوسطية في العقيدة تعني التوازن بين الإيمان بالغيب والتمسك بالعقل والمنطق، بعيداً عن الغلو في الأمور العقدية أو الانسلاخ عنها. فالفرد الذي يتحلى بالاعتدال الإيماني لا يتطرف في تصوره للعقيدة، ولا يفرط فيها. بل يحقق توازناً بين المحبة والخوف والرجاء، وبين التوكل والأخذ بالأسباب. هذا التوازن ينعكس على الطمأنينة النفسية التي يعيشها الإنسان المؤمن المعتدل، حيث لا يعيش في حالة قلق مفرط أو أمن كاذب.

2. التوازن النفسي والانفعالي

يتجسد أثر الاعتدال في التكوين النفسي للفرد من خلال تجنّبه للمبالغة في ردود أفعاله، أو الغلو في مشاعره. فالفرد الوسيط يتحلى بالحكمة، ويتعامل مع المواقف بواقعية ومرونة دون انفعال زائد أو لا مبالاة. فهو يوازن بين الغضب والحلم، وبين الطموح والرضا، وبين الجدّ والمرح، ما يسهم في تحقيق الصحة النفسية والاستقرار العاطفي.

3. السلوك الأخلاقي القويم

يُظهر الفرد المعتدل سلوكًا متزنًا قائمًا على القيم الأخلاقية المستمدة من الفطرة والدين، بعيداً عن الإسراف أو التفريط. فهو لا يغلو في الزهد حتى يهمل حاجات الجسد، ولا يغرق في الشهوات حتى تفسد روحه. بل يعيش وفق ميزان العدالة والرحمة والإنصاف، ويتعامل مع الآخرين بتوازن واعتدال.

4. النجاح في العلاقات الاجتماعية

يُسهم الاعتدال في بناء علاقات إنسانية ناجحة، قائمة على التفاهم، والاحترام المتبادل، والتسامح. فالشخص المعتدل يتعامل مع الآخرين دون تعصب أو تحامل، ويقبل الاختلاف دون أن يتنازل عن مبادئه. كما يبتعد عن الأحكام المطلقة والسلوكيات الإقصائية، مما يجعل منه عنصراً إيجابياً في بيئته الاجتماعية.

5. التفكير العقلاني واتخاذ القرار الرشيد

يتبنى الفرد الوسيط منهجاً علمياً في التفكير، يقوم على التوازن بين النقل والعقل، وبين العاطفة والمنطق. فهو لا يندفع خلف العواطف ولا يستسلم للمؤثرات اللحظية، بل يستند إلى تقييم عقلاني للمعطيات عند اتخاذ قراراته. كما يتمكن من التعامل مع المتغيرات والأزمات بحكمة وهدوء.

ثانياً: أثر الوسطية والاعتدال على المجتمع

1. تحقيق الاستقرار والأمن

المجتمع الذي يسوده الاعتدال بعيد عن مظاهر الغلو والتطرف، سواء الديني أو الفكري أو السياسي. إذ إن مظاهر التطرف غالباً ما تقود إلى العنف والفوضى والانقسام. بينما الاعتدال يشجع على الحوار، ويؤسس لمجتمع يسوده التعايش السلمي، والتعددية، واحترام الآخر، وهو ما ينعكس على استقرار الأمن الاجتماعي والسياسي.

2. بناء منظومة قيمية متوازنة

الاعتدال يساعد على ترسيخ منظومة من القيم التي تجمع بين الثوابت والانفتاح، وبين المحافظة والتجديد. فالمجتمع المعتدل لا يقصي القيم الأصيلة، ولا يرفض التقدم، بل يوازن بين الموروث والمعاصر، ويُنتج خطابًا ثقافيًا جامعًا يتسم بالاعتدال في الطرح والتقبل في التلقي.

3. التنمية الشاملة

الوسطية تسهم في دفع عجلة التنمية، إذ إن الاعتدال في الإنفاق، والعدالة في توزيع الموارد، والحرص على المصلحة العامة دون تغليب فئة على أخرى، عوامل تساعد في بناء اقتصاد متوازن ومجتمع منتج. كما أن الاعتدال في السياسات التعليمية والثقافية يسهم في بناء أجيال واعية، قادرة على الإبداع والتطور.

4. نشر روح التسامح والتعايش

المجتمع المعتدل يقدّر التعدد والاختلاف، ويؤمن بأن التعايش لا يعني التنازل عن المبادئ، بل هو أساس للسلام الاجتماعي والتماسك الوطني. فالثقافة الوسطية تقف حاجزًا أمام خطاب الكراهية والتفرقة، وتبني جسور التواصل بين مختلف مكونات المجتمع، سواء أكانت دينية، أو ثقافية، أو عرقية.

5. ترسيخ الديمقراطية والمشاركة

حين يتبنى المجتمع مبدأ الاعتدال، يترسخ فيه مبدأ المشاركة في صنع القرار، والحوار البناء بين أطياف المجتمع المختلفة. فالاعتدال يتنافى مع الاستبداد، ويدعو إلى الشورى والتعددية، ويشجع على إتاحة الفرص للجميع، دون تمييز أو إقصاء. وهو ما يعزز من استقرار المؤسسات ويقوّي النسيج الوطني.

جدول يوضح مقارنة بين آثار الوسطية وآثار التطرف:

الوسطية في الإسلام: منهج لا شعار

يؤسس الإسلام لمفهوم الوسطية كمنهج شامل وليس مجرد موقف وقتي أو مصطلح دعائي. فالوسطية ليست فقط رفضاً للتطرف أو الغلو، بل هي توازن منهجي بين المتناقضات، وموقف إيجابي من الحياة، ومقاربة إنسانية للحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. فهي شمولية متوازنة تجمع بين حق الله وحق العبد، وبين الدنيا والآخرة، وبين الروح والجسد، وبين الثبات والتجديد.

وقد رسّخ النبي محمد ﷺ هذا المنهج في سلوكه وتعليمه، حيث نهى عن التشدد والغلو، وقال: “إياكم والغلو، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو” [رواه النسائي]. وأوصى بالتيسير والتوازن في العبادة والمعاملة، وبيّن أن الدين يسر لا عسر فيه.

تحديات معاصرة للوسطية

على الرغم من وضوح المنهج الوسطي في الإسلام، فإن واقع الأمة الإسلامية يعاني من مظاهر متعددة للتطرف والانحراف عن هذا النهج. ومن أبرز هذه التحديات:

• الخطاب الديني المتشدد أو المميع: بعض التيارات الدينية تسيء فهم النصوص، فتغلو أو تفرط.

• الاستقطاب السياسي: الذي يعزز لغة الإقصاء والتخوين، ويضعف من روح التعايش.

• العولمة الثقافية: التي قد تؤدي إلى ذوبان الهوية الثقافية أو انغلاقها.

• الجهل والأمية الدينية: والتي تفتح المجال أمام الفكر المتطرف ليجد له موطئ قدم.

دور المؤسسات في تعزيز الوسطية

لتفعيل أثر الوسطية في المجتمع، لابد من تكاتف جميع مؤسسات التنشئة، وعلى رأسها:

• المؤسسة التعليمية: من خلال دمج قيم الوسطية والتسامح في المناهج، وتشجيع التفكير النقدي.

• المؤسسة الدينية: بتقديم خطاب متزن يراعي الواقع ويفهم مقاصد الشريعة.

• وسائل الإعلام: بنشر الوعي وخطاب التعايش، وتفنيد مظاهر التطرف.

• الأسرة: بتنشئة الأبناء على قيم الحوار والاحترام والاعتدال منذ الصغر.

خاتمة

الوسطية ليست فقط خياراً فردياً أو توجهاً فكرياً، بل هي ضرورة حضارية لضمان بقاء المجتمعات قوية ومتماسكة، ومتقدمة على مستوى الإنسانية والعدالة. وهي الضمانة الأساسية لحفظ كرامة الإنسان وحقوقه، وتوفير بيئة آمنة للعيش والعمل والتعبير. وحين يسود الاعتدال بين الناس، تزدهر الحياة، وتعلو القيم، ويتحقق المقصد الأسمى من الرسالات السماوية في إقامة العدل والخير والسلام.

المصادر:

1. القرضاوي، يوسف. الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف. مكتبة وهبة، القاهرة.

2. ابن عاشور، محمد الطاهر. مقاصد الشريعة الإسلامية. دار السلام، القاهرة.